كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فإن قيل: لم أجاب عن الأوّل بقوله: {إنما علمها عند ربي} وعن الثاني بقوله: {إنما علمها عند الله}؟
أجيب: بأنّ السؤال الأوّل لما كان واقعًا عن وقت قيام الساعة، والثاني كان واقعًا عن مقدار شدّتها ومهابتها عبر عن الجواب فيه بقوله: علم ذلك عند الله؛ لأنه أعظم أسمائه مهابة وعظمة ثم إنه تعالى ختم هذه الآية بقوله: {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} أي: لا يعلمون السبب الذي من أجله أخفيت معرفة علم وقت قيامها المغيب عن الخلق، وقيل: لا يعلمون أنّ علمها عند الله وإنه استأثر بعلم ذلك حتى لا يسألوا عنه.
وروي أنّ أهل مكة قالوا: يا محمد ألا تخبرنا بالسعر الرخيصة قبل أن يغلو فنشتريه ونربح فيه عند الغلاء، وبالأرض التي تريد أن تجدب فنرحل عنها إلى ما قد أخصبت، فأنزل الله تعالى:
لهم {لا أملك لنفسي نفعًا} اجتلاب نفع بأن أربح فيما أشتريه {ولا ضرًّا} أي: ولا أقدر أدفع عن نفسي ضرًّا نزل بها بأن أرتحل إلى الأرض الخصبة أو من الأرض الجدبة {إلا ما شاء الله} من ذلك فيلهمني إياه ويوفقني له.
وقيل: إنه صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة بني المصطلق عصفت ريح في الطريق ففرّت الدواب منها فأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بموت رفاعة بالمدينة، وكان فيها غيظ للمنافقين وقال صلى الله عليه وسلم: «انظروا أين ناقتي» فقال عبد الله بن أبيّ المنافق مع قومه: ألا تعجبون من هذا الرجل يخبر عن موت الرجل بالمدينة ولم يعرف أين ناقته؟ فقال صلى الله عليه وسلم إنّ ناسًا من المنافقين قالوا: كيت وكيت، وناقتي في هذا الشعب قد تعلق زمامها بشجرة فوجدوها على ما قال صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية: {ولو كنت} أي: من ذاتي {أعلم الغيب} أي: جنسه {لاستكثرت} أي: أوجدت لنفسي كثيرًا {من الخير وما مسني السوء} أي: ولو كنت أعلمه لخالفت حالي ما هي عليه من استكثار المنافع، ويدخل فيه ما يتصل بالخصب واجتناب المضارّ حتى لا يمسني سوء {إن} أي: ما {أنا إلا نذير} بالنار للكافرين {وبشير} بالجنة {لقوم يؤمنون} أي: يصدّقون، وقيل: لقوم يؤمنون متعلق بنذير وبشير؛ لأنهم المنتفعون بهما {هو الذي خلقكم} أي: ولم تكونوا شيئًا {من نفس واحدة} أي: خلقها ابتداء من تراب، وهي آدم عليه السلام {وجعل منها} أي: من جسدها من ضلع من أضلاعها، وقيل: من جنسها لقوله تعالى: {جعل لكم من أنفسكم أزواجًا} (الشورى،).
{زوجها} أي: حوّاء، قالوا: والحكمة في كونها خلقت منه أنّ الجنس إلى الجنس أميل والجنسية علة الضمّ {ليسكن إليها} أي: ليأنس بها ويطمئن إليها إطمئنان الشيء إلى جزئه أو جنسه، وإنما ذكر الضمير في يسكن بعد أن أنث في قوله تعالى: {من نفس واحدة} ذهابًا إلى معنى النفس ليناسب تذكير الضمير في قوله تعالى: {فلما تغشاها} أي: جامعها، ولئلا يوهم لو أنثه نسبة السكون إلى الأنثى، والأمر بخلافه إزالة لاستيحاشه، فكانت نسبة المؤانسة إليه أولى {حملت حملًا خفيفًا} أي: خف عليها ولم تلق منه ما يلقى الحوامل غالبًا من الأذى، أو محمولًا خفيفًا وهو النطفة {فمرّت به} أي: فعالجت به أعمالها وقامت وقعدت ولم يعقها عن شيء من ذلك لخفته {فلما أثقلت} أي: صارت ذا ثقل بكبر الولد في بطنها {دعوا الله} أي: آدم وحوّاء عليهما السلام {ربهما} مقسمين {لئن آتيتنا صالحًا} أي: ولدًا سويًا لا عيب فيه {لنكونن من الشاكرين} أي: نحن وأولادنا على نعمتك علينا، وذلك أنهما جوّزا أن يكون غير سوي لقدرة الله تعالى على كل ما يريد لأنه الفاعل المختار.
فائدة:
اتفق القراء على إدغام تاء التأنيث الساكنة في الدال.
{فلما آتاهما صالحًا} أي: جنس الولد الصالح في تمام الخلق بدنًا وقوّة وعقلًا، فكثروا في الأرض وانتشروا في نواحيها ذكورًا وإناثًا {جعلا} أي: النوعان من أولادهما الذكور والإناث؛ لأنّ صالحًا صفة للولد وهو الجنس، فيشمل الذكر والأنثى والقليل والكثير، فكأنه قيل: فلما آتاهما أولادًا صالحي الخلقة من الذكور والإناث جعل النوعان {له شركاء} أي: بعضهم أصنامًا وبعضهم نارًا وبعضهم شمسًا وبعضهم غير ذلك، وقيل: جعل أولادهما له شركاء {فيما آتاهما} أي: فيما آتى أولادهما فسموه عبد العزى وعبد مناف على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، ويدل عليه قوله تعالى: {فتعالى الله عما يشركون}.
{أيشركون ما لا يخلق شيئًا وهم يخلقون} أي: الأصنام.
فإن قيل: كيف وحد {يخلق}، ثم جمع فقال: {وهم يخلقون}؟
أجيب: بأنّ لفظ ما يقع على الواحد والاثنين والجمع، فوحد بحسب ظاهر اللفظ، وجمع باعتبار المعنى.
فإن قيل: كيف جمع الواو والنون لمن لا يعقل وهو جمع من يعقل من الناس؟
أجيب: بأنه لما اعتقد عابدوا الأصنام أنها تعقل وتميز ورد هذا الجمع على ما يعتقدونه، وقيل: لما حملت حوّاء أتاها إبليس في صورة رجل فقال لها: ما يدريك ما في بطنك؟ ولعله بهيمة أو كلب وما يدريك من أين يخرج؟ فخافت من ذلك وذكرت لآدم فهُمّا منه، وهو بضمّ الهاء وتشديد الميم من الهم وهو هنا الحزن، ثم عاد إليها وقال: إني من الله بمنزلة فإن دعوت الله على أن يجعله خلقًا مثلك، ويسهل عليك خروجه فسميه عبد الحرث، وكان اسم إبليس حارثًا في الملائكة، ففعلت ولما ولدته سمته عبد الحرث.
فإن قيل: قد قال البيضاويّ: وأمثال ذلك لا تليق بالأنبياء، ويحتمل أن يكون الخطاب في خلقكم لآل قصيّ من قريش، فإنهم خلقوا من نفس قصيّ وكان له زوج من جنسها عربية قرشية فطلبا من الله تعالى الولد فأعطاهما أربعة بنين فسمياهم عبد شمس وعبد مناف وعبد قصيّ وعبد الدار، ويكون الضمير في يشركون لهما ولأعقابهما المقتدين بهما اه أجيب: بأنه نظر في ذلك إلى الظاهر وإلا فقد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لما ولدت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال: سميه عبد الحرث فإنه يعيش، فسمته فعاش فكان ذلك من وحي الشيطان وأمره» رواه الحاكم وقال: صحيح، والترمذيّ وقال حسن غريب.
وروي عن ابن عباس أنه قال: كانت حواء تلد لآدم فتسميه: عبد الله وعبيد الله وعبد الرحمن فيصيبهم الموت، فأتاهما إبليس فقال: إن سركما أن يعيش لكما ولد فسمياه عبد الحرث، فسمياه فعاش، وجاء في حديث: «خدعهما إبليس مرتين: مرّة في الجنة ومرّة في الأرض»، وهو قول كثير كمجاهد وسعيد بن المسيب وهذا كما قال البغويّ: ليس إشراكًا في العبادة، ولا أنّ الحرث ربهما فإنّ آدم كان نبيًا معصومًا من الشرك ولكن قصد إلى أنّ الحرث كان سبب نجاة الولد وسلامة أمّه، وقد يطلق اسم العبد على من لا يراد به إنه مملوك كما يطلق اسم الرب على من لا يراد به أنه معبود هذا كالرجل إذا نزل به ضيف يسمي نفسه عبد الضيف على وجه الخضوع لا على وجه أنّ الضيف يملكه قال الشاعر:
وإني لعبد الضيف ما دام ثاويًا ** ولا شيمة لي بعدها تشبه العبدا

وتقول للغير: أنا عبدك، قال الرازي: ورأيت بعض الأفاضل كتب على عنوان عبد ودود فلان، وقال يوسف عليه السلام لعزيز مصر: {إنه ربي} (يوسف،).
ولم يرد به معبوده كذلك هذا فقوله تعالى: {فتعالى الله عما يشركون} ابتداء كلام، وأريد به إشراك أهل مكة، وقرأ نافع وشعبة: {شركًا} بكسر الشين وسكون الراء وألف منونة بعد الكاف في الوصل وفي الوقف بغير تنوين أي: شركة، والباقون بضمّ الشين وفتح الراء وبعد الكاف ألف بعدها همزة مفتوحة.
فإن قيل: المطاع إبليس فكيف يعير بالجمع؟
أجيب: بأنّ من أطاع إبليس فقد أطاع جميع الشياطين، هذا إن حملت هذه الآية على القصة المشهورة، أمّا إذا لم نقل به فلا حاجة إلى التأويل.
{ولا يستطيعون} أي: الأصنام {لهم} أي: لعابديهم {نصرًا} أي: لا تقدر على النصر لمن أطاعها أو عبدها، ولا تضر من عصاها، والمعبود الذي تجب عبادته يكون قادرًا على إيصال النفع والضر، وهذه الأصنام ليست كذلك، فكيف يليق بالعاقل أن يعبدها؟ {ولا أنفسهم ينصرون} أي: وهي لا تقدر أن تدفع عن نفسها مكروهًا، فإنّ من أراد كسرها قدر عليه، وهي لا تقدر على دفعه عنها. والاستفهام للتوبيخ.
ثم خاطب المؤمنين بقوله تعالى: {وإن تدعوهم} أي: المشركين {إلى الهدى} أي: إلى الإسلام {لا يتبعوكم} أي: لأنّ الله تعالى حكم عليهم بالضلالة فلا يقبلوا الهداية، وقرأ نافع بسكون التاء وفتح الباء الموحدة، والباقون بفتح التاء مشدّدة وكسر الباء الموحدة {سواء عليكم أدعوتموهم} إلى الهدى {أم أنتم صامتون} أي: ساكتون عن دعائهم، فهم في كلا الحالتين لا يؤمنون.
وقيل: الضمير في تدعوهم للأصنام أي: إنّ هذه الأصنام التي يعبدها المشركون معلوم من حالها أنها لا تضرّ ولا تنفع ولا تسمع من دعاها إلى خير وهدى، وذلك أنّ المشركين كانوا إذا وقعوا في شدّة وبلاء تضرّعوا إلى أصنامهم، وإذا لم يكن لهم إلى الأصنام حاجة سكتوا فقيل لهم: لا فرق بين دعائكم إلى الأصنام وسكوتكم عنها، فإنها عاجزة في كل حال.
{إنّ الذين تدعون} أي: تعبدون {من دون الله عباد} أي: مملوكة {أمثالكم} فهي لا تملك ضرًّا ولا نفعًا.
فإن قيل: كيف وصفها بأنها عباد مع أنها جماد؟
أجيب: بأنّ المشركين لما ادّعوا أنّ الأصنام تضرّ وتنفع وجب أن يعتقدوا فيها كونها عاقلة فاهمة، فوردت هذه الألفاظ على وفق معتقدهم تبكيتًا لهم وتوبيخًا ولذلك قال: {فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين} في كونها آلهة، ولم يقل: فادعوهنّ فليستجبن، وقال: {إنّ الذين}، ولم يقل: التي، وبأنّ هذا اللفظ إنما ورد في معرض الاستهزاء بالمشركين؛ لأنهم لما نحتوها بصورة الإناسي قال لهم: إن قصارى أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء أمثالكم، فلا يستحقون عبادتكم كما إنه لا يستحق بعضكم عبادة بعض، فلم جعلتم أنفسكم عبيدًا، وجعلتموها آلهة وأربابًا.
ثم أبطل أن يكونوا عبادًا أمثالكم بقوله تعالى: {ألهم أرجل يمشون بها أم} أي: بل الله: {لهم أيد يبطشون بها أم} أي: بل الله: {لهم أعين يبصرون بها أم} أي: بل الله: {لهم آذان يسمعون بها} وهذا الاستفهام إنكاري أي: ليس لهم شيء من ذلك مما هو لكم، فكيف تعبدونهم وأنتم أتم حالًا منهم؟ إذ لا يليق بالإنسان العاقل أن يشتغل بعبادة الأخس الأدون الأرذل، ونظير هذا قول إبراهيم الخليل عليه السلام لأبيه: {لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئًا} (مريم،).
وقد تعلق بعض الجهال بهذه الآية في إثبات هذه الأعضاء لله تعالى، فقال: إنّ الله تعالى جعل عدم هذه الأعضاء لهذه الأصنام دليلًا على عدم إلهيتها، فلو لم تكن هذه الأعضاء موجودة لله لكان عدمها دليلًا على عدم الإلهية، وذلك باطل فوجب القول بإثبات هذه الأعضاء لله تعالى.
أجيب: بأن المقصود من هذه الآية بيان أنّ الإنسان أفضل وأحسن حالًا من الصنم؛ لأنّ الإنسان له رجل ماشية ويد باطشة وعين باصرة وأذن سامعة، والصنم رجله غير ماشية ويده غير باطشة وعينه غير مبصرة وأذنه غير سامعة، فكان الإنسان أفضل وأكمل حالًا من الصنم، فاشتغال الأفضل الأكمل بحال الأخس ألادون جهل، فهذا هو المقصود من ذكر هذا الكلام لا ما ذهب إليه وهم هؤلاء الجهال {قل ادعوا} أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: ادعوا {شركاءكم} أي: إلى هلاكي {ثم كيدون} قال الحسن: كانوا يخوّفونه صلى الله عليه وسلم بآلهتهم فقال الله تعالى له: قل لهم ادعوا شركاءكم ثم كيدون أي: ليظهر لكم أنها لا قدرة لها على إيصال المضارّ إليّ بوجه.
وقرأ أبو عمرو بإثبات الياء وصلًا ووقفًا، وهشام له فيها وجهان: الإثبات والحذف، وصلًا ووقفًا، والباقون يحذفونها وصلًا ووقفًا. ثم تهكم عليهم صلى الله عليه وسلم بقوله: {فلا تنظرون} أي: فأعجلوا في كيدي أنتم وشركاؤكم، فإنكم لا تقدرون على ذلك، وعلل عدم قدرتهم على ذلك بقوله: {إنّ وليي الله} الذي يتولى حفظي ونصري هو الله: {الذي نزل الكتاب} المشتمل على هذه العلوم العظيمة النافعة في الدين وهو القرآن {وهو} أي: الله سبحانه: {يتولى الصالحين} أي: بنصره وحفظه، فلا يضرهم عداوة من عاداهم، قال ابن عباس: يريد بالصالحين الذين لا يعدلون بالله شيئًا ولا يعصونه، فمن عادته تعالى أن يتولى الصالحين من عباده فضلًا عن أنبيائه وفي هذا مدح للصالحين، وأنّ من تولاه الله تعالى بحفظه لا يضره شيء، وعن عمر بن عبد العزيز أنه ما كان يدخر لأولاده شيئًا، فقيل له فيه، فقال: ولدي إما أن يكون من الصالحين أو من المجرمين، فإن كان من الصالحين فوليه هو الله تعالى، ومن كان الله تعالى له وليًا فلا حاجة له إلى مالي، وإن كان من المجرمين فقد قال الله تعالى: {فلن أكون ظهيرًا للمجرمين} ومن رده الله تعالى لم أكن مشتغلًا بمهماته {والذين تدعون من دونه} أي: الله: {لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون} أي: فكيف أبالي بهم؟